أرجو من حكومتنا الواعدة أن تحاسب أيضاً من يصدرون الأحكام المسبقة: حماية للمجتمع وردعاً للفتنة
في زمن باتت فيه وسائل التعبير متاحة للجميع، وصار بإمكان أي شخص أن يُطلق العنان لرأيه في أي وقت وعبر أي منصة، تزداد الحاجة إلى تعزيز ثقافة المسؤولية والانضباط، خاصة عندما يتعلق الأمر بإصدار الأحكام على الآخرين دون وجه حق أو اختصاص. ولذا، فإن مناشدة حكومتنا الواعدة بتوسيع مظلة المحاسبة لتشمل أولئك الذين يتسرعون في إدانة الأشخاص علناً، ويُطلقون عليهم أوصافاً وأحكاماً قبل أن تُصدر الجهات القضائية أو الرسمية المختصة قرارها، أصبحت ضرورة أخلاقية ووطنية، بل واجباً لحماية النسيج الاجتماعي، والحيلولة دون إشعال الفتن التي قد تنشأ بسبب تلك التصرفات غير المسؤولة.
العدالة لا تقوم إلا باختصاص
من البديهي أن لكل دولة مؤسساتها القضائية والتنظيمية التي أنشأتها لضمان سير العدالة وتحقيق المساواة بين المواطنين. هذه الجهات، بما تمتلكه من أدوات تحقيق وتحليل، وما تستند إليه من تشريعات وقوانين، هي المخولة الوحيدة بإصدار الأحكام بعد التحقق من كل الأدلة والملابسات. أما أن يتحول الأفراد العاديون، سواء من خلال منابر الإعلام أو عبر حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، إلى قضاة يبتّون في النوايا، ويطلقون الصفات، ويقررون الذنب أو البراءة، فذلك ليس فقط خروجاً عن النظام، بل تعدٍّ سافر على العدالة نفسها.
إن مبدأ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" ليس مجرد شعار يتردد، بل هو أساس راسخ في كل الأنظمة القانونية الحديثة، وهو ما يضمن عدم تدمير سمعة إنسان أو مسّ كرامته بناءً على ظنون أو استنتاجات سطحية. وعليه، فإن من يصدرون الأحكام من غير اختصاص، يعبثون بهذا المبدأ، ويضعون أنفسهم فوق القانون، وهذا ما يجب أن يُردع بكل حزم.
خطر الأحكام المسبقة على المجتمع
لا تقتصر خطورة إصدار الأحكام المسبقة على الفرد المعني فقط، بل تتجاوز إلى زعزعة استقرار المجتمع بأكمله. فعندما تنتشر الشائعات والأقاويل المختلقة، وتتضخم القضايا البسيطة عبر التهويل والمبالغات، يتولد مناخ عام من التوتر والريبة، ويبدأ الناس بفقدان الثقة ببعضهم البعض، وبالجهات الرسمية كذلك. وهذا هو مدخل الفتن الحقيقي.
الفتنة لا تشتعل من فراغ، بل تبدأ غالباً من كلمة غير مسؤولة، أو حكم مستعجل، أو توصيف ظالم، ينتشر بسرعة البرق ويجد له آذاناً صاغية وقلوباً متهيئة للتأثر. وهنا تتعاظم مسؤولية الدولة ليس فقط في محاسبة مرتكبي الأفعال، بل أيضاً أولئك الذين يصنعون من الفعل أداة لإثارة الفوضى وتشويه الحقائق وإثقال الجو العام بالإثارة غير المسؤولة.
اقرأ أيضا : أطفال غزة تحت الأنقاض: هل أيقظت مشاهد الدمار ضمير الحكام العرب؟
الإثارة والتهويل: أدوات هدم لا بناء
حين يقوم بعض الأشخاص بإضافة لمسات درامية، وتعليقات مثيرة على حادثة ما أو تصرف معين لشخص لم تثبت إدانته بعد، فهم لا يكتفون بسرد الواقعة كما حدثت، بل يعيدون تشكيلها وفق رؤيتهم أو ميولهم أو مصالحهم، فيتحول الفعل إلى مشهد استعراضي يجذب الانتباه ويؤجج المشاعر. والنتيجة: تضليل الرأي العام، وتشويه السمعة، وإطلاق أحكام جماعية لا تخلو من الجور.
إن مثل هذه الممارسات لا تقل سوءاً عن الفعل الأصلي الذي وقع، بل قد تكون أشد خطراً، لأنها تزرع بذور الكراهية والانقسام، وتؤسس لثقافة "الفضيحة" لا "العدالة"، وتشجع على التجاوزات، خاصة عندما لا يجد صاحب الفعل المثير من يردعه أو يحاسبه.
المحاسبة ضرورة لتحقيق الردع العام
من هنا، فإن الدعوة إلى محاسبة من يُصدرون الأحكام دون اختصاص ليست تجنياً على حرية التعبير كما قد يدعي البعض، بل هي دعوة لضبط هذه الحرية وتنظيمها حتى لا تتحول إلى فوضى تضر بالناس. الحرية التي لا يرافقها وعي ومسؤولية تصبح أداة هدم، والمجتمعات لا تتقدم إذا تُركت الساحات لمن يثيرون الغرائز والانفعالات بدلاً من تحفيز العقول.
إن المساءلة القانونية لمن يُشهّر بالناس، أو يُدينهم عبر وسائل الإعلام أو المنصات الرقمية، قبل صدور الأحكام الرسمية، يجب أن تكون واضحة وصارمة. ويجب أن يترافق ذلك مع حملات توعوية تبين للناس خطورة مثل هذه التصرفات، وما يترتب عليها من أذى نفسي واجتماعي على الأفراد والعائلات.
بين الغيرة على الصالح العام والتجاوز في حق الأفراد
قد يدّعي البعض أنهم يتحركون بدافع "الغيرة على الصالح العام" أو "الدفاع عن القيم"، لكن الغيرة الحقيقية لا تكون بتجاوز القانون، ولا باتهام الناس دون دليل، ولا بنشر الأسرار أو التفاصيل التي لم يُكشف عنها رسمياً. الدفاع عن الأخلاق لا يكون باللاأخلاق، والنوايا الطيبة لا تبرر الوسائل المؤذية.
لو فتح الباب لكل من أراد أن يحكم على غيره بناءً على ما سمع أو قرأ أو استنتج، لانهارت فكرة النظام، ولتحولنا إلى غابة من الاتهامات المتبادلة، تسودها الفوضى ويغيب عنها الإنصاف.
الثقة بالمؤسسات هي صمام الأمان
إن ما نحتاجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو ترسيخ الثقة في مؤسسات الدولة، وتشجيع الناس على الرجوع إلى الجهات المختصة في حال وجود تجاوز أو خطأ أو مخالفة. ويجب أن يعي الجميع أن الحل لا يكون في أن يتصدر الناس مواقع التحكيم فيما لا يملكون فيه أدوات الفهم ولا الخبرة، بل في أن يُساهموا ببناء مجتمع واعٍ لا ينقاد وراء الإثارة ولا يتورط في إطلاق الأحكام الجاهزة.
الخاتمة: رسالة إلى حكومتنا الواعدة
إننا نُعول على حكومتنا الواعدة، صاحبة الرؤية الشاملة والطموح المتجدد، أن تكون حامية للعدل، لا فقط في مواجهة من ارتكبوا فعلاً مرفوضاً، بل أيضاً في مواجهة من يفتعلون من ذلك الفعل مسرحاً للفوضى، أو منصة للفتنة، أو وسيلة لتصفية الحسابات الشخصية.
نأمل أن تُدرج في منظومة المحاسبة والتشريع قوانين أكثر وضوحاً وصرامة لمواجهة من يُطلقون الاتهامات ويُصدرون الأحكام دون وجه حق، وأن يُفعّل النظام الإلكتروني لرصد مثل هذه الانتهاكات، وإيقاع الجزاء العادل بأصحابها، حماية للناس وردعاً لكل من تسول له نفسه اللعب بالنار.
وفي النهاية، فإن العدل كلٌ لا يتجزأ، وإن الإنصاف لا يكتمل إلا حين يُحاسب من يُشعل الفتنة كما يُحاسب من بدأ الفعل، لأن كليهما شريك في الأذى، وكليهما مسؤول أمام الله، ثم أمام الدولة والمجتمع.